“وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا” (الإسراء 53)
كن رحيما
يحدث أحيانا أن يكون الفراق بسبب كلام، ويكون الوفاق بسبب كلام، وتكون الحياة بسبب كلام، ويكون الموت بسبب كلام.
في هذه الآية الكريمة يلفت الله أنظار عباده إلى أهمية الكلمة التي تخرج منهم، فقد تؤثر في متلقيها أو سامعها تأثير عميق لا يلقي له صاحب الكلمة بالا ولا يحسب له حسابا، وذلك لسبب أصيل يغفل عنه الإنسان دائما ويذكرنا الله به على الدوام.
ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما. (طه 115)
منذ أن خلق الله آدم عليه السلام، أعلمه بعداوة الشيطان وحذره منه ومن سماع كلامه وتصديقه، ولكن آدم عليه السلام نسي تحذير الله ووقع في فخ الشيطان وسمع كلامه وأكل من الشجرة التي منعه منها الله عز وجل.
الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم
وكما نسي آدم عليه السلام نسي بنيه، وكتب الله على بني آدم أن يجري الشيطان منهم مجرى الدم، كما قال رسول الله في حديثه الشريف( يجري الشيطان من ابن آدم مجرى الدم)، والمقصود أنه يجري في مسالك عقله كما يجري الدم في عروق بدنه، أو أنه يجري فعلا في مجاري الدم في الإنسان.
إن الشيطان ينزغ بينهم
تصور أن يجري منك الشيطان مجرى الدم أو أن يجري في مسالك عقلك فيصبح صوته صوتك وفعله فعلك،فقد تنطق بما لا تريد قوله، وتفعل ما لا تريد فعله، ويكون الشيطان هو المتكلم حينها وهو الفاعل.
تصور أيضا حينما تكون أنت من يتلقى كلمه أو فعل من الآخرين، فإن هذا الشيطان الذي يجري في مسالك عقلك يفسر الكلام بطريقته الشقية التي تدخل الحزن في قلبك وتوغر العداوة بينك وبين أخيك. ولذلك (إن الشيطان ينزغ بينهم) أي من الجانبين.
فهم آلية الوسوسة قد يساعدك على تجنبها
فكان من الله التحذير والتنبيه، لأن الله أذن للشيطان أن يجري من ابن آدم مجرى الدم، وأنظره إلى يوم البعث، لكنه في نفس الوقت جعل للإنسان القدرة للتغلب عليه و دحره وهزيمته، قال تعالى( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين).
حل اللغز
وتأمل قول الله تعالى(عبادي) في الآيتين (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن)،(إن عبادي ليس لك عليهم سلطان)، نسب الله العباد لذاته العلية، رحمة ورأفة بهم ولطفا منه سبحانه وتعالى، وكأن مفتاح اللغز هو الرأفة والرحمة واللطف بين الله و عباده، وبين العباد أنفسهم.
كيف تكون الرحمة هي الحل؟
ينبغي أن تكون الرحمة بين العباد في ثلاث اتجاهات متباينة ومتكاملة في نفس الوقت:
-
الإتجاه الأول: الرحمه من جهة المتكلم
أحيانا يكون الكلام صحيح لكن طريقة إلقاء الكلام حادة أو غليظة، أو تكون نبرة الصوت عالية فيفهم منها الإستعلاء، أو يكون الكلام نقدا لاذعا و هناك بعض الأنفس التي لا تتحمل النقد وتعتبره سبة ، أو يكون عتابا قويا و هناك بعض الأنفس التي لا تتحمل العتاب ويعذبها الإحساس بالذنب فتبادر بالرفض والإنكار……
ولذلك رفقا بإخوانكم، رفقا بأنفسهم الضعيفة التي أنهكتها الحياة والمشاكل والمتاعب ، ولا تكن عونا للشيطان على أخيك، حاول أن تترفق معه بالكلام .
خبراء الذكاء العاطفي يضعون شروطا للنقد أو العتاب، وهي:
- أن تكون محددا في كلامك، لا تتطرق إلى مواضيع شتى، حتى لا يجد الشيطان طرقا ووسائل يحول بها إنتباه أخيك عن ما تقصده إلى معنى آخر يحزنه أو يثيره.
- قدم حل أو حلول، لا تترك أخاك يفكر كثيرا كيف يرضيك.
- يجب أن تكون حاضرا بنفسك أثناء النقد أو العتاب، فهذا أدعي لفهم المقصود وعدم إساءه الفهم، للأسف في عصرنا الحالي نتواصل بالرسائل النصية والمكالمات الهاتفية، وذلك من أكثر أسباب سوء الفهم بين الناس، بعض المواضيع لا يمكن أن يشرحها صاحبها ولا أن يفهمها متلقيها إلا بتواجد الطرفين وجها لوجهه، لأن شرح هذه المواضيع لا يكون بالحروف فقط ولكن بالمشاعر الظاهرة على وجهه وجسد الإنسان، لغة جسده، نبرة صوته، نظرة عينه، كلها أشياء تعين على الفهم والتعاطف، وتصعب على الشيطان الدخول بينهما.
- إختيار الوقت المناسب الذي يكون فيه قد هدأ الطرفين، واختيار الكلمات المناسبة التي لا تجرح سامعها.
-
الإتجاه الثاني:الرحمه من جهة المتلقي
هذا ما نسميه حسن الظن بين المؤمنين، وإلتماس الأعذار، ونذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال(لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرا وأنت تجد لها في الخير محملا)، وقال الشافعي إلى أحد أصدقائه (أعلم أنك لو سببتني ما أردت لي إلا الخير)، وهذا من حسن الظن وعدم كفران الصديق .
إحذر أن تحسن الظن بنفسك وتسيئه بالآخرين فإن ذلك يحملك على تزكية نفسك بغير حق وهو ما نهى الله تعالى عنه حين قال( ولا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى)
-
الإتجاه الثالث: الرحمة من جهة المجتمع المؤمن
المجتمع المؤمن ليس بمعزل عن ما يحدث بين أخوين مؤمنين، فهو في تواده وتراحمه وتعاطفه كالجسد الواحد إذا إشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، كما قال رسولنا الكريم، وقد أوصانا الله في حال وجدنا فئتين متخاصمتين من المؤمنين أن نصلح بينهم بالعدل، وقال تعالى( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون)، هكذا ختم الله هذه الآية بالرحمة العامة التي تعم المجتمع المؤمن بأكمله لأنه يتقي الله ويتراحم بينه ولا يرضى بوجود خصومة بين أفراده وفئاته.
الراحمون يرحمهم الرحمن